أداة الطبيب المفقودة: فلسفة الجسد المعتل
يمكن لطبيب الطوارىء أن يَقرأ نتيجة تخطيط القلب بكل سهولة؛ و يمكن لطبيب الأشعة أن يُفصّل صورة الرنين المغناطيسي بكل برعاة؛ كما يمكن لطبيب الأعصاب أن يتَتَبع مصدر العلة وراء العَرَض بكل دقة؛ و يمكن لطبيب الشرعي أن يحدد سبب الوفاة بكل ثقة. لكن هؤلاء الأطباء - وغيرهم - قد يواجهون صعوبة في تشخيص المريض حين يشكو «أنا مُرهق» ويكتفي بذلك. لأن نقطة انطلاق الطبيب في تشخيصه للمرض هي الخصائص الموضوعية للشكوى، لا الشكوى نفسها. وهذا لأن «أنا مُرهق» تنبع من الخبرة الذاتية لمعاناة المريض، مما يعطيها قيمة ثانوية في التشخيص الطبي الموضوعي. فالطبيب يَتَقَصّى ما يمكن قِراءته وتفصيله وتتبعه وتحديده عند المريض، أي إنه يبحث عن الموضوعات (الأعراض والعلامات) التي تُمكّنه من استخدام مهاراته السريريّة.
من هنا، نستطيع أن نرى الإشكال يلوح في الأفق، عندما يقف الطبيب عاجِزًا أمام الخبرة الذاتية للمريض، فلا يسعه سِوى تفتيتها و اختزالها إلى موضوعاتٍ قابلة للتشخيص. حينها نطرح سؤالنا .. كيف يؤثر اختزال الممارسة الطبية على تعافي المريض؟
لكن قبل الإجابة على ذلك، علينا التحدث أولًا عن فلسفة الجسد الـمُعْـتَلّ، باعتباره الوسط الذي يتم من خلاله «تَشييء» المعاناة.
الأبعاد المختلفة للجسد الواحد
يخبرنا الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو-بونتي Maurice Marleau-Ponty أن الجسد هو وسيلة وجودنا في العالم. إنه تجسُّد «الوعي Consciousness» و «الخِبرة Experience» و «التَّعَرُّضِيّة Vulnerability»؛ وبصيغةٍ فلسفية نقول ..
أنا جسدي
فعندما أشكو «أنا أتألم»، هذا يعني أن «جسدي يتألم». لكن الجملة الأولى لها دلالة ذاتية، في حين الثانية لها دلالة موضوعية. هنا، يُمَيّز ميرلو-بونتي بين «الجسد الحي المعيش The Living Body» و «الجسد الموضوعي The Objective Body». وهي أبعاد مختلفة لجسدٍ واحد ..
إذْ يكون الجسد ذاتًا و موضوعًا في الوقت نفسه، وهو وحدة تجمع النفس والجسد معًا، كما أنه إمكانية الوجود في العالم.
وبالعودة إلى شكوى الألم، يكون الجسد الحي المعيش هو مَن يحمل الخبرة الذاتية للمعاناة، لأنه يمثل البُعد الذاتي واللامرئي في جسدي. إنه ما أعنيه بـ«أنا» حين أقول «أنا أتألم». في حين الجسد الموضوعي هو كتلة اللحم والعظم المرئية والتي تتمظهر فيها وعليها أعراض المعاناة (خفقان القلب، انقِباض العضلات، انقِطاع النفس .. إلخ) و علاماتها (مثل ارتفاع أو انخفاض المؤشرات الحيوية). فالمعاناة الـمَرَضيّة ليست مجرد تمظهر للأعراض و العلامات، وإنما ما استشعره في وجداني أيضًا. أنا الذات والموضوع، ولا أقبل الاختزال. أنا مجموعهما بلا زيادة أو نقصان.
وبعد شرح هذه المفاهيم الفلسفية، قد تبدو لنا فكرة أبعاد الجسد بديهية إلى حدٍ يُثير استغرابنا! فكيف يمكن لمثل هذه الفكرة أن تغيب عن وعينا المتجسد في خبراتنا اليومية ؟
غياب الجسد وحضوره الـمُعْـتَلّ
عندما نَمشي، تتحرك أجسادنا بشكلٍ مُتناغم و مُغيَّب عن وعينا. لا أحد يفكر «أنا الآن ارفع قدمي .. أنا الآن أضع قدمي». نحن نفعل هذه الحركات دون أن نشغل وعينا بتفاصيلها، لأنها وظيفة جسدية مُسلَّم بها، ولا حاجة للجسد أن يكون حاضِرًا أثناء أداء وظائفه المعتادة. لكن، ماذا لو التَوى كاحِل القدم وأصبحت كل حركة تُشعل آلامها في الساق بأكملها؟ حينها سيُسجل الجسد حضوره في الوعي مُعْـتَلًا ومُعترِضًا. هذا الجسد الغائب أثناء تناغمه، عندما يعْـتَلّ، يظهر بتعرُّضِياته ساحِبًا الوعي إلى فكرة طارئة مفادها «هناك خطبٌ ما!». وكلما اشتد الاعتِلال، زادت شموليته على الجسد كوسيلة للوجود في العالم. أي إن الكاحِل الملتوي لا يدفعني إلى التركيز على جسدي المتألم فقط، بل إنه يسحب تركيزي عما سِواه، فيصبح وجودي يتمحور حول العِلة وتأثيرها.
وبكلماتٍ أخرى نقول، إن الجسد الـمُعْـتَلّ يفرض لنفسه وجودًا مختلِفًا يستوحش فيه العالم والآخرين، وقد يستوحش فيه نفسه. لأن المعاناة «عملية اغتِرابيّة Alienating Process»، تعمل فيها ثنائية الدفع و السحب على سَلخ الذات عن موضوعها وعزلها عن موضوعات العالم.
والآن، لنتعمق في مفهوم المعاناة و نسأل .. كيف يؤثر الجسد الـمُعْـتَلّ على خبراتنا ووجودنا في العالم؟
الجسد الـمُعْـتَلّ ووجوده المقيَّد
نجد الإجابة مجددًا عند ميرلو-بونتي، وهو الذي حَـلَّلَ في كتابه «فينومينولوجيا الإدراك» عِدة حالاتٍ مَرَضيّة أثَّـرَت أجسادها الـمُعْـتَلّة على خبراتها ووجودها في العالم. ونبدأ من مفهومه للإدراك، حيث إنه ..
معرفة بالعالم وانفتاح عليه، فهو علاقة معية قائمة بين الذات الـمُدرِكة والعالم الـمُدرَك، وتتم هذه العملية مرورًا بالجسد لأنه أساس نظرية الإدراك.
وبالتالي نستنتج ..
أن العالم الـمُدرَك ليس ما أفكر فيه، وإنما ما أعيشه.
هنا، يتبين لنا أيضًا ..
أن الجسد هو الأسلوب الوحيد للوجود-في-العالم، وأن حركة الوعي إلى العالم، ومن العالم إلى الوعي، تمر من خلال الجسد باعتباره الحامل لحَواسنا وذواتنا.
أي إن الحالة الصحيّة للجسد تؤثر بشكلٍ مباشر على الوجود في العالم. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن للجسد الـمُعْـتَلّ وجودًا مُقيَّدًا بقَدر اعتلاله.
إن طبيعتي التعرُّضِية الـمُتَجَسِّدة، عندما تنفتح على العالم، تضعني على «طَيْف الاستِطاعة Ability Spectrum» بين ما «أستطيع» و«لا أستطيع» فعله. بمعنى، إن تعرُّضِيتي هي ما تجعل جسدي قابِلًا للاعتِلال، وانفتاحي على العالم يُحقق إمكانية حدوث هذا الشيء.
أنا الآن «أستطيع » المشي دون التفكير بحركات قَدَمَيّ المتناغمة على الطريق؛ لكن تعرُّضِية كاحِلي تبقى كما هي، مُعرَّضة للالتواء في أي لحظة. و عندما يحدث هذا الشيء، انتقل بجسدي إلى النصف المقابل على طَيْف الاستِطاعة؛ حينها أقول أنا «لا أستطيع» المشي، لأن قدرتي انعدمت مؤقتًا. هذا الانعدام، هو القيد الذي يفرِضه جسدي الـمُعْـتَلّ على وجودي في العالم. وللطَيْف أهمية كبيرة في تقسيم الاستِطاعة على درجات متفاوتة، لأن انعدام القدرة على المشي لا تتساوى عند المصابين. فمَن التَوى كاحِله لا يكون على نفس موضع مَن بُتِرت ساقه. كما أن للتَمَوضُع على الطَيْف ديناميكية عالية تُحركها عوامل كثيرة أهمها التدخلات الطبية. حيث أن الهدف الأساسي من العلاج بأنواعه (الطبي، الجراحي، النفسي والطبيعي) هو إعادة المريض إلى موضعه «الأصلي Baseline» وتحسينه إن أمكن ذلك. ويمكننا أن نرى الإعجاز الطبي في التحول الدراماتيكي من الطرف إلى الطرف حين يتم تركيب ساق اصطناعية لمَن بُتِرت ساقه، فيستعيد بها قدرته على المشي.
ولكن ماذا عن خِبرة المعاناة؟ هل تؤثر طبيعتها الذاتية على التَمَوضُع و ديناميكيته بين مختلف الناس؟ بصيغة أخرى، هل يمكن للمعاناة أن تتفاوت في تأثيرها على طَيْف الاستِطاعة مع ثبات العِلة؟ ببساطة، نعم. لأن العِلة وإن ثبتت ينتج منها خِبرات مختلفة بعدد الأجساد الـمُعْتلّة. فالتِواء الكاحِل عند ثلاثة أشخاص (أ، ب ، ج) بأعمار و أوزان و حالات صحية مختلفة، سينتج منه ثلاث خِبرات ذاتية متفاوتة على طَيْف الاستِطاعة.
ونشدد هنا على أهمية وضع الخبرة الذاتية في سياقها الصحيح «لمواجدة Empathize» المرضى؛ فانعدام قدرة (أ) علي المشي لا تجعله ضعيفًا مقارنةً بغيره، و تَحمُّل (ج) لآلام الإصابة لا تجعل معاناته هيّنة. فكم من شخص قال «أنا أستطيع» وفي داخله يصرخ ألمًا. وكم من شخص قال «أنا لا أستطيع» وهو حقًا لا يستطيع.
وبعد هذا التأسيس المفاهيمي الـمُطوَّل، حان الوقت لتوسيع رقعة التحليل إلى ماهو أبعد من الآلام البدنية اللحظية، ونذهب إلى تأثير الأمراض المزمنة على الجسد ووجوده في العالم.
أثر العِلة المزمنة
رحلة معاناة المرض تبدأ بانكِماش الوجود ثم تنتهي بانبِثاقه مجددًا بعد التعافي. و قد تستمر هذه الرحلة لساعات وأيام وأسابيع، يَتَقَيَّد فيها وجود المريض نتيجة اعتلال جسده. وبعد التطبيب المناسب، يكتمل تشافي الجسد وتُفكّ قيود وجوده، لينفتح الفرد على العالم كما كان سابِقًا. إنها اللحظة التي تشم فيها رائحة القهوة بعد عِدة أيام من الزكام، و اللحظة التي تحمل فيها كوب القهوة بعد عِدة أسابيع من تركيب الجبيرة. لكن ماذا لو كانت العلِة مزمنة؟ حينها، سيُعيد الجسد تَشكيل عالمه ليوافق وجوده الـمُقيَّد؛ و عندما تنفتح الذات على العالم، ستجده مُختلِفًا! و هي حالة أشبه ما تكون بـ«الندبة الفينومينولوجية Phenomenological Scar»، لأنها ستبقى مُلازِمة لخبراتِنا طوال حياتنا. فمعاناة الصُداع حتى وإن نزعتك من وجودك واستوحشت العالم في ساعاتها، يبقى عالمك كما عهدته ينتظر خروجك من هذه المحنة. لكن الأمراض المزمنة، ستُغير من خِبرتك وعلاقتك بالعالم والآخرين على أساس هذا الاعتلال، تمامًا كما تفعل الندبة على سطح الجلد.
(ننوه هنا، بأن الأمثلة المذكورة أدناه مُبسَّطة لغرض توضيح أفكار المقالة فقط، ولا يجب أخذها على أنها محاولة لتثقيف الصحي)
المرض المزمن وموضوعات العالم:
مَن يعاني من مرض السكري «لا يستطيع» أكل الحلوى أو كل ما يؤدي إلى رفع مستوى السكر في الدم؛ لأن جسده الـمُعْـتَلّ فقد قدرته على الاستِجابة / إفراز الانسولين. مما يفرض عليه وجودًا مُقيدًا تختلف فيه نتيجة تفاعله الإدراكي مع العالم و موضوعاته. أي إن الوجود من خلال الجسد الـمُعْـتَلّ بمرض السكري، أعاد تشكيل عالمه الـمُدرَك من حوله، بحيث تكتسب موضوعات العالم - الطعام والحلويات تحديدًا - معنى مختلف تمامًا. وهذا ينعكس بدوره على الخبرة الذاتية للمرض، التي سبق وقلنا بأنها لامرئية وغير قابلة للقياس. فالطبيب يمكنه قياس مستوى السكر التراكمي في الدم، وقد يعاتب المريض حين تكون نتيجته عالية؛ لكن لا يمكنه قياس مستوى الصراع الداخلي الذي يعيشه المريض في كل مرة يرى فيها قطعة الحلوى. كما لا يمكنه قياس مستوى مخاوف المريض من أن يفقد بصره أو قدمه، أو أن تتفاغم حالته و تؤثر على كليتيه. هذا الصراع و هذه المخاوف أهم من أن يتم اعتبارها ذات قيمة ثانوية، لأنها حجر أساس خِبرة المريض بمعاناته.
المرض المزمن والعلاقة بالآخر:
في حين مَن يعاني من ضعف الانتِصاب «لا يستطيع» المشاركة في بعض الممارسات الجنسية؛ لأن جسده الـمُعْـتَلّ فقد القدرة على ذلك لأسباب عضوية أو نفسية. مما يفرض عليه وجودًا مُقيدًا تختلف فيه نتيجة تفاعله مع الآخر كشريك (زوجة) أو شريك محتمل (حبيبة). أي إن الوجود من خلال الجسد الـمُعْـتَلّ بضعف الانتِصاب، أعاد تشكيل علاقاته الإنسانية من جانبها الجنساني، بحيث تتجرد محاولة الإغواء من معناها، و تتحول كل مبادرة جنسانية إلى قلق من الفشل في المشاركة الفعّالة وإشباع رغبة الآخر. بل إن في ثقافاتنا المتأثرة «بالفالوس Phallus» - عضو الذكورة في حالة انتصابه - كرمزية للقوة والسلطة، تُعيد هذه العِلة تشكيل علاقة الذات بجسدها على أساس الشعور بالعجز؛ كما لو أن الذات تقول لجسدها «أنت لست رجلًا بما فيه الكفاية». هذه الخِبرة الجحيميّة للمعاناة مهما بدت قساوتها على المريض، تبقى عند الطبيب ذات قيمة ثانوية !
فما الذي يدفع الأطباء إلى تَشييء معاناة المرضى ؟
أداة الطبيب المفقودة
التطبيب هو محاولة إقامة النظام من الفوضى، وإعادة تناغم الجسد من نشاز علته. و هذا يتطلب منهجية ثابتة، قادِرة على وَصف تمظهرات العِلة وتصنيفها، ثم تفسيرها سببيًا، ورسم حدودها التشخيصية بمعايير إكلينيكية مدروسة، وأخيرًا، تقديم تدخلات طبية موثوقة النتائج.
أي إن الممارسة الطبية الموضوعية تُفضِّل الجسد الموضوعي، لأنه يتحدث لغتها، ويُطاوع أدواتها، ويقبل تفسيراتها، ويشفى بتدخلاتها؛ في حين الجسد الحي المعيش يرفض ويقاوم ذلك. فالخبرة الذاتية غير ثابتة، مما يجعلها عَصيّة على الوصف والتصنيف والتفسير. وهذا ما يُفرِّغها من قيمتها التشخيصية عند الطبيب، الذي يُعاين الشكوى فقط من أجل اختزالها إلى خصائصها الموضوعية.
ويمكننا أن نرى هذه العملية الاختزالية بوضوح في «أسئلة تقييم طبيعة الآلام» التي تُدرَّس في كتب المهارات السريرية لكل طبيب وممرض يتعامل مع شكاوى المرضى. هذه الأسئلة الثمانية المعروفة بالاختصار (SOCRATES)، يَطرحها الممارس الصحي على المريض حين يأتي إلى المستشفى بشكوى الألم؛ و هي كالتالي:
Site (الموضع): أين تشعر بالألم؟
Onset (الظهور): هل شعرت بالألم فجأة أم بشكل تدريجي؟
Character (صفة): ماهي طبيعة إحساسك بالألم؟
Radiation (النفاذ): هل تشعر بتنقل الألم من مكان إلى آخر؟
Associations (الارتباطات): هل هناك أعراض أخرى مرتبطة بالألم؟
Time Course (البداية): متى بدأ معك الألم؟
Exacerbation / Relieving Factors (العوامل المخففة): هل هناك ما يخفف أو يزيد من حِدة الألم ؟
Severity (الحدة): ما تقيمك لدرجة حِدة الألم؟
كل هذه الأسئلة تسعى لاستِخلاص الخصائص الموضوعية من شكوى الألم بشكلٍ أو بآخر، مُتجاهِلةً السؤال الأبسط لخبرة معاناة المريض .. سؤال السياق و المعنى.
هنا، قد يعترض الأطباء على أن هذا السؤال لا علاقة له بالممارسة الطبية! فهل هذا صحيح؟
ما لا تراه عين الطبيب
هذا الاعتِقاد السائِد بين الأطباء، هو نتيجة العقلية الأكاديمية الطبية بتخصصاتها الدقيقة التي قَسَّمَت المعاناة بين فروعها؛ ولأن الفسلفة بعيدة كل البُعد عن التخصصات الطبية، أصبح لِزامًا إخراجها من معادلة تقسيم المعاناة، التي اكتسبت عبر المعالجة العلموية صورة ثلاثية الأبعاد (عضوية، نفسية، اجتماعية). و بذلك، تم إقصاء كل ما يتعلق بالمعاناة الوجودية من عقلية الطبيب، حتى أصبح ينظر إلى المريض ويرى أعراض عِلته وعلاماتِها فقط. وهذا ما يحدث في الممارسة اليومية داخل أروقة المستشفيات، حيث تتحول أسماء المرضى إلى أسماء حالاتهم؛ «فلان الفلاني» يتحول إلى «مريض الربو» أو «مريض الانيميا» .. وهكذا. إنه «الانشِقاق الراديكالي» كما يصفه البروفيسور درو ليدر Drew Leder بين «جسدي المعيش» و «جسدي الموضوعي» تحت معاينة الطبيب.
ويكمن الإشكال الأساسي هنا في تقسيم ما لا يقبل القِسمة؛ فالمعاناة ليست حالة مُستقلة ذات أوجه متعددة تَتَلَقَّفها التخصصات المنعزلة عن بعضها؛ و إنما هي جزء من نسيج الحياة تتكون من خيوط الخِبرة المتجسِّدة لوجودنا التعرُّضِي في العالم.
أنا جسدي، و هذا يعني أن المعاينة الطبية التي تفصل بيني وبينه، ناقِصة في فهمها للمعاناة؛ مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية تؤثر على الصحة الكلية للمريض. لأن بعد ما يقارب الـ ٢٠٠٠ كلمة من الحديث عن تأثير الجسد الـمُعْـتَلّ على وجوده في العالم، نستطيع الزعم بأن هناك «صحة وجودية Existential Health» تعتل و تشفى .. و هذا ما لا تراه عين الطبيب!
حماية المريض من آثار القلق الوجودي
في ورقته الفلسفية «فقط المخلوقات الـمُتَعَرِّضة تعاني» يُفَرِّق البروفيسور أولا سغوردسون Ola Sigurdson بين الصحة الوجودية كمفهوم شامل وبقية أبعاد الصحة المشمولة فيه:
الجسدية
النفسية
الاجتماعية
حيث تعكس الصحة الوجودية علاقة الذات بشكل الوجود من خلال الجسد المعتل بأمراض الأبعاد الأخرى. أي إن العافية الوجودية لا تعبر عن حالة خالية من العِلَل، وإنما هي حالة تصالح مع الوجود الـمُقيّد بعِلَل الجسد؛ كأن يتصالح مريض السكري مع وجوده الـمُقيّد في العالم، فهو متعافي وجوديًا بالرغم من مرضه. بل إن في تصالح ذاته مع جسده الـمُعتَلّ انفتاحًا على الحياة.
هذا التصالح، كعملية ذاتية، يعتمد على عَقلَنَة المعاناة ووضعها في سياقها الأكبر لمعنى الحياة والموت وما بينهما. فالمعاناة بلا معنى عَصيّة على العَقلَنَة ويَصعب التصالح معها. وهنا يأتي دور الطبيب لحماية المريض من آثار القلق الوجودي وانفِلات المعنى. فقد ذكرنا سابِقًا أن المعاناة المـَرَضيّة تبدأ بانكماش الوجود، حيث يكون المريض في حالة من الهشاشة تجعل ذاته الـمُغتَرِبة تفقد ثقتها بجسدها والعالم والآخرين. وفي تلك اللحظة، على الطبيب أن يباشر عِلاج الجسدين معًا، «المعيش» و «الموضوعي»، فاستعادة ثقة الذات بالعالم وما فيه تبدأ من العيادة. و هذا يتم بمواجدة المريض و فسح المجال لسردية معاناته الذاتية بأن تفيض باعتبارها أداة لتشخيص والعلاج. ومن هنا نعود إلى أسئلة (SOCRATES) وتجاهلها لسؤال السياق والمعنى، لنر كيف يؤثر هذا التجاهل على سردية المريض، وبالتالي صحته الوجودية. فلا يمكن للذات أن تتصالح مع معاناتها إن لم يسمح لها الطبيب بأن تضع المعاناة في السياق الصحيح لتكتمل الصورة ويتضح المعنى.
و من هذا المنطلق، نقول إن للجسد الحي المعيش -«أنا أتألم»- أهمية في علاج المعاناة الوجودية، كما أن للجسد الموضوعي -«جسدي يتألم»- أهمية في علاج المعاناة الجسدية؛ ولأن أبعاد الجسد والمعاناة لا تقبل الانقسام -«أنا جسدي»- نستنتج بُطلان الموقف الاعتراضي من تبني الأداوات الفلسفية في الممارسة الطبية.
بل نذهب إلى أبعد من ذلك، و نقول إنه من المخجل أن يقضي الطبيب سبعة سنوات على مقاعد الدراسة في كلية الطب دون أن يتعلم مفهومًا فلسفيًا واحِدًا عن الخِبرة الذاتية للمعاناة! و هذا ما يقودنا إلى الجزئية الأخيرة في هذه المقالة.
نقد الممارسة الطبية لا تعني شيطنة الطبيب
أعتقد أنه من الإجحاف بحق كل مَن يعمل في المجال الصحي أن ننتقد الممارسة الطبية دون الكشف عن سياق واقع العمل اليومي في المستشفيات. فأصل الإشكال هنا يرجع إلى المؤسسة وأنظمتها البيروقراطية وتسلسلها الهرمي، لا الطبيب الذي هو نِتاجها منذ أيام دراسته. فعملية التَلقَنَة تبدأ من الدراسة، حيث يحفظ الطالب كَم هائل من المعلومات و المفاهيم التي تُشَكِّل عنده النظرة الطبية الاختزالية، حتى تترسخ في ذهنه منطق أسئلة (SOCRATES) وتجاهلها للمعنى، ثم يأخذ يرددها على كل مريض دون أن يتوقف يومًا ويسأل نفسه «ماذا عن خِبرة المريض لمعاناته؟» وهذا لأن أعداد المراجعين للعيادة أكبر من أن يفتح لهم الطبيب مجالًا للاستِفاضة في سردياتهم، مما يجبر المريض على تفتيت سرديته بشكل ذَري ومنزوع من السياق، فتتحول زيارة الطبيب إلى جلسة صمت تتخللها بعض الأسئلة والأجوبة؛ و النتيجة، مريض لا يعرف مرضه! كما أن الطبيب الذي يعمل لأكثر من ٢٤ ساعة لا يستطيع التفكير سِوى بمعاناته! فالأطباء والمرضى هم ضحايا النظام نفسه.
ملاحظة على المعاناة الوجودية من تجربتي الشخصية كطبيب
(ننوه هنا، بأن القصة المذكورة أدناه حقيقية، لكن تفاصيل الحالة لا تطابق الواقع حمايةً لهوية المريض)
عندما استُدّعِيَ فريقنا الطبي لمعاينة مريض يشكو من الألم بعد أخذه للجرعة القصوى من الـمُسَكِّن الموصوف له، شَهَدت حينها خِبرة المعاناة كما يَتَكَبَّدَها المريض في جسده ووجدانه. كان صوت بكائه مَسموعًا من الرِواق، حتى شككنا بأنه لم يأخذ أدويته؛ لكن الممرضة المسؤولة عنه أكدت لنا عكس ذلك. فالمريض كان يبكي مُتألِمًا بالرغم من كل الـمُسَكِّنات التي تجري في دمه. توقفت عند محطة التمريض قبل أن أدخل على المريض، وفتحت ملفه الطبي، لأجده على الورق شابًا لم يتجاوز العشرين مُشَخَّصًا بالإيدز. لحظتها، وصلني بكائه في سياقٍ مختلفٍ تمامًا، بَدا لي مفهومًا وغنيًا بالمعنى حتى و إن كان مجرد صُراخٍ بدائي. فقد كان ألمه بدنيًا، نفسيًا، والأقسى من هذا و ذاك، كان ألمه وجوديًا؛ ولا يمكن لأدوية العالم أن تخففه. شاب في هذا العمر، مصابٌ بالإيدز، لا يرى العالم كما نراه؛ والأكيد، أنه لا يعيش فيه كما نعيش فيه. علاقته بالآخر تشوبها الأحكام بأنواعها الدينية والاجتماعية والأخلاقية. إنه يصارع آلام المرض وصعوبات الحياة ونَظَرَات الآخرين.
إنه الجحيم. وفي الجحيم، كان دانتي في حاجة إلى ڤيرجل. وكل المرضى الذين يعانون في جحيم الآلام على أسِرّة المستشفيات، يحتاجون إلى ڤيرجل ليُخرجهم منها. فإن كان المورفين والترامادول والباراسيتامول تُسَكِّن آلام الجسد الموضوعي، مَن يقول للجسد الحي المعيش ..
ولذا، فلسلامكَ أقترِح أن تتبعني، وسأكون أنا دليلك
إن لم يكن الطبيب، فمَن؟